
كلمة قالها المتنبي منذ مئات السنين، لكنها اليوم خلاصة مئات الأبحاث الحديثة.

تقرير Gallup الذي شمل 150 دولة بيّن أن 85% من الموظفين في العالم غير مندمجين حقاً في أعمالهم، بينما وجدوا أنهم يعملون فقط ليحصلوا على راتبهم، لا بشغفٍ ولا بالتزامٍ بالشركة أو نجاحها، أو حتى في تطوير أنفسهم! وتقرير Harvard Business Review أوضح أن الموظفين في أعظم الشركات بل وأكثرها نجاحاً، لم يتجاوزوا نسبة الـ 20% و 30% من المندمجين، وكان المال بالطبع ليس المبرر! أما تقرير PWC فيُظهر أن 70% من الذين تركوا الشركة لم يتركوها بسبب راتبٍ أو عرضٍ مغرٍ، بل بسبب غياب التقدير، أو لأنهم لم يشعروا أن أحداً يلاحظ مجهودهم أو اهتمامهم بما يفعلون.
ستيف جوبز لم يكن أول من أطلق جهاز “ماك” بمعنى “حاسب إلكتروني”، فقد كان هناك عشرات الشركات تفعلها قبله، لكن ما لم تستطع تلك الشركات فعله هو “إتقان التفاصيل” لتُنتج شيئاً يجعل العالم كله يراه، يتمنى امتلاكه، ويستلهم منه! وكذلك تويوتا حين تبنت فلسفة Kaizen “الكايزن” أي “التحسين المستمر”، لم يكن مفهومها أن تُنتج سيارة خالية من العيوب، بل أن تصنع نظاماً يجعل من كل عاملٍ ومديرٍ ومهندسٍ في المصنع، باحثاً يومياً عن طريقة جديدة لتطوير الأداء وتقليل الخطأ، مهما كان صغيراً. ولذلك نجد أن تويوتا ما زالت تُدرّس في أعظم كليات الإدارة حول العالم بعد أكثر من 1400 سنة من إطلاق فلسفتها. وحتى مايكروسوفت حين تتحدث عن الإتقان، لا تقصد الكمال الذي لا يخطئ، بل العمل الجماعي المستمر نحو التحسين. وهكذا وصلت شركات التقنية العالمية الكبرى إلى النجاح عبر ثقافة “الإتقان المستمر” لا “النتيجة الكاملة”
في كل مشروع يبدأ بحماس، لكنه ما يلبث أن يتهاوى لأن القائمين عليه لم يتقنوا التخطيط، أو أغفلوا التفاصيل، أو تنازلوا عن الجودة. وفي كل فكرةٍ جميلةٍ تموت لأن من يقودها لم يُتقن بناءها، ولم يُحسن تطويرها. وفي كل مؤسسةٍ تملك المال والقدرات، لكنها تفتقد الإتقان في العمل الجماعي، فتتراجع وتخسر. ولهذا، حين ننظر حولنا نجد أن أكثر المشاريع التي فشلت لم تفشل لأن أصحابها لم يعرفوا، بل لأنهم لم يُتقنوا ما عرفوه.
أما إذا حضر الإتقان في كل مرحلة، كان الناتج عظيماً، حتى مع قلة الموارد وضعف الإمكانات. ولهذا ظهرت مفاهيم مثل MVP (المنتج الأولي القابل للاستخدام) التي لا تعني طرح منتج ناقص، وإنما طرح منتجٍ بسيطٍ متقنٍ يحافظ على ثقة العميل. أما “Perfectionism” (التشدد في انتظار الكمال المطلق) فإنه دعوة إلى الفشل، لأنه يوقف التقدم. لكن الإتقان هو أن تقدم أفضل ما عندك الآن، في حدود وقتك وما لديك من إمكانات. الإتقان لا يعني الكمال… بل يعني أن تبذل جهدك حتى لا تخجل مما صنعت
لأن السهل دائماً أكثر إغراءً، ولأن العمل بإتقانٍ يتطلب وقتاً وجهداً ووعياً عميقاً، بينما التهاون لا يحتاج سوى التبرير. الكفاءة لا تتحقق في يومٍ أو شهر، بل في تراكمٍ مستمرٍ من التحسينات الصغيرة. الإتقان لا يُقاس بحجم الإنجاز، بل بثباتك على تطويره كل يوم. ولهذا نجد من ينجز عملاً فيُمدح مرة، لكن من يُتقن عمله يُذكر كل مرة. والأول يترك أثراً مؤقتاً، أما الثاني فيترك إرثاً دائماً.
ليس لأن أحداً يراك، بل لأنك ترى نفسك
ولأنك تؤمن أن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يُتقنه
ولأنك تعلم أن ما يُبنى بلا إتقان، سيسقط يوماً، مهما بدا عظيماً في البداية.
فـ لن يُلاحظ أحدٌ أنك لم تُتقن عملك اليوم، لكن الجميع سيلاحظ غداً أنك لم تصل
وأنك توقفت عند نصف الطريق، بينما الذين أتقنوا واصلوا حتى النهاية.